القدس عبر التاريخ
الغزاة يرحلون وتبقى القدس لأهلها...
يبوس، اورشليم، ايليا، بيت المقدس، زهرة المدائن، القدس الشريف، مدينة السلام، هي كلها أسماء لمدينة واحدة هي القدس، تسمت بها عبر تاريخها الطويل الذي يمتد لآلاف السنين، ولكن هذه المدينة هي أبعد المدن عن السلام إذ تعرضت لأكثر من أربعين محتلاً ودمرت اكثر من 37 مرة.
وها هي اليوم ترزح تحت نير الاحتلال »الاسرائيلي« منذ 33 عاماً، وهي كانت أكثر المسائل تعقيداً وخلافاً بين المتفاوضين الفلسطينيين و»الاسرائيليين« في كامب ديفيد.
القدس مهد الحضارة
يرجع المؤرخون بداية الحضارة في القدس الى عشرة آلاف عام تقريباً، حيث ظهرت حضارة النطوفيين والتي اكتشفت آثارهم في وادي النطوف غربي القدس، وكانوا اول من عرف الزراعة عبر التاريخ.
في الالف الرابع قبل الميلاد هاجرت من الجزيرة العربية قبائل »العموريين« و»الكنعانيين« ومنهم »اليبوسيون« الى ارض فلسطين، والتي اطلق عليها ارض كنعان، وكان اليبوسيون اول من سكن مدينة القدس حوالي 2500 قبل الميلاد. ومن اشهر ملوكهم »سالم« الذي بنى فيها حصناً واحاطه بالاسوار، وسميت المدينة باسمه »اورسالم«، ومن ملوكهم كذلك »ملكي صادق« والذي تشير التوراة الى ايمانه بالله، وصداقته لابراهيم الخليل عليه السلام، واتخاذه من الحرم القدسي الشريف معبداً له.
الحكم الفرعوني
في مطلع القرن السادس عشر قبل الميلاد، تعرضت القدس لحكم فراعنة مصر ولفترة امتدت الى قرنين من الزمان، وكان الفراعنة يعينون والياً مصرياً ينوب عنهم في الحكم، وقد تعرضت القدس في هذه الفترة لغزو قبائل الخبيرو، مما دعا الوالي »عبدي خيبا« للاستنجاد بالفرعون »اخناتون« لصدهم، ولكنه لم يستجب لطلبه هذا.
حكم اليهود
اول دخول لليهود الى القدس كان زمن داوود عليه السلام، والذي سيطر على المدينة حوالي العام 1000 قبل الميلاد، وسمى المدينة باسمه، وبنى فيها الحصون وقصراً له، ثم خلفه في حكم القدس ابنه سليمان عليه السلام والذي بنى فيها هيكله المعروف باسمه، واستمر حكم اليهود للمدينة 300 عام تعرضت خلالها لكثير من غزوات الاعداء وانتشر فيها الفساد والفوضى وعبادة الأوثان.
حكم الفرس
احتل الفرس مدينة القدس زمن »نبوخذ نصر« عام 586 قبل الميلاد، والذي دمر المدينة واحرق الهيكل، وقضى على وجود اليهود فيها وسباهم الى بابل، بالعراق، الى ان سمح لهم الملك »قورش« الفارسي عام 538 ق.م بالعودة الى القدس، وبنى لهم هيكلاً سماه هيكل قورش.
الحكم اليوناني والروماني
عام 332 ق.م وصل الاسكندر الاكبر الى القدس عبر معاركه نحو الشرق، وبعد وفاته خضعت القدس لحكم البطالمة في مصر ثم السلوقيين في سوريا، وفي عهد الملك السلوقي »انطيوخوس الرابع« جرى تدمير الهيكل عام 165 ق.م. وارغم اليهود على اعتناق الوثنية.
وفي عام 63 ق.م خضعت المدينة للامبراطورية الرومانية بعدما استولى عليها القائد »بومبي«، وقد عامل الرومان اليهود معاملة حسنة وسمح لهم بتجديد بناء الهيكل، ورغم ذلك فقد تمردوا في عهد الامبراطور »نيرون« والذي ارسل قائده »تيطس« لتأديبهم عام 70م، فاحرق القدس ونهبها وسبى منهم عدداً كبيراً. ثم تعرضت القدس للتدمير مرة اخرى عام 135 م في عهد الامبراطور »هدريان« بعد تمرد اليهود للمرة الثانية. ورفض السماح لغير المسيحيين بالاقامة في المدينة.
وبمساعدة اليهود هاجم الفرس عام 614م مدينة القدس واحتلوها، الى ان تمكن الامبراطور »هرقل« من استردادها عام 627م.
الفتح العربي الاسلامي
ارتبط المسلمون معنوياً بالقدس حتى قبل الفتح العمري لها، فقد كانت اول قبلة لهم، وهي مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن صخرتها المشرفة كان المعراج الى السماء، لذلك كان المسلمون يتوقون الى اليوم الذي يتم فيه فتح القدس، وقد تحقق لهم ذلك بعد الانتصار على الروم في معركة اليرموك، حيث توجه اليها القائد ابوعبيدة عامر بن الجراح، لكن بطريرك القدس »صفرونيوس« اشترط تسليمها للخليفة عمر بن الخطاب شخصياً، فكان له ذلك عام 636م. حيث منح المسيحيين »العهدة العمرية« بالحفاظ على اموالهم وكنائسهم وحرية معتقداتهم الدينية مقابل الجزية.
ومنذ ذلك اليوم، اولى المسلمون القدس جل اهتمامهم، فعمروها بالمساجد والمدارس وغير ذلك، واصبحت مقراً للعلماء والفقهاء. وبلغ اوج الاهتمام بها في عهد الخليفة الأموي عبدالملك بن مروان، والذي اقام مسجد قبة الصخرة المشرفة عام 72هــ الموافق 691م. ثم شرع في بناء المسجد الأقصى، قبل ان يتوفى ليكمله الوليد بن عبدالملك عام 86هـ الموافق 705م.
ثم اصبحت القدس محط زيارة للعديد من الخلفاء العباسيين، والذين أجروا العديد من التجديدات والاصلاحات على المسجد الاقصى وقبة الصخرة المشرفة.
بعد ذلك دخلت القدس في عهدة الطولونيين والاخشيديين من 265 هـ ـــ 359 هـ، ثم انتقلت إلى عهدة الفاطميين فالسلاجقة حتى الاحتلال الصليبي لها عام 492 هـ الموافق 1099م.
الاحتلال الصليبي
رفعت الحملات الصليبية المتتالية زوراً وبهتاناً شعار انقاذ بيت المقدس من يد المسلمين، فتوجهت الجيوش الصليبية نحو الشرق عبر بلاد الشام، فاستطاعت احتلال القدس وانشاء مملكة بيت المقدس الصليبية عام 1099م، لتخضع لحكمهم 88 عاماً، ارتكب خلالها الصليبيون ابشع الجرائم بحق سكان القدس وقتلوا غالبيتهم، ودنسوا المسجد الاقصى وحولوه إلى اسطبل لخيولهم.
صلاح الدين يحرر القدس
لم يستسلم المسلمون لاحتلال القدس، فتصدوا لقتال الصليبيين في أكثر من مكان، واستطاع صلاح الدين الايوبي بعد توحيد المسلمين ان ينتصر على الصليبيين في معركة حطين عام 583 هـ الموافق 1187م، وان يحرر بعدها القدس صلحاً، حيث سمح للصليبيين بمغادرة المدينة، وانزال الصليب عن قبة الصخرة، واقام في المسجد الاقصى المنبر الذي عرف باسمه، واعاد اعمار القدس بانشاء الخنادق والاسوار والابراج الحربية للدفاع عنها اذا ما تعرضت لأي عدوان.
تعرضت القدس بعد ذلك لحكم الصليبيين مرتين الأولى عندما سلمها الملك الكامل عام 1229م لملك صقلية »فردريك« لمدة 11 عاماً حيث استردها الملك الناصر داوود ليعود ليسلمها مرة ثانية للصليبيين لمدة أربع سنوات، إلى ان استردها نهائياً الملك الصالح نجم الدين أيوب عام 1244م.
العهد المملوكي العثماني
بدأ العهد المملوكي للقدس عام 651 هـ الموافق 1253م، حيث عاشت عصراً ذهبياً إذ زارها الظاهر بيبرس، وسيف الدين قلاوون وغيرهما وخلفوا فيها العديد من الآثار المدنية والدينية، إلى ان انتزعها العثمانيون عام 1517م اثر انتصارهم بقيادة السلطان سليم على المماليك في معركة مرج دابق.
اهتم العثمانيون في أوج قوتهم بمدينة القدس، بانشاء الطرقات وتعمير مساجدهم، وأشهر عمل لهم كان بناء سور القدس في عهد السلطان سليمان القانوني عام ،1542 حيث استغرق البناء خمس سنوات وامتد ليحيط المدينة القديمة بطول أربعة كيلومترات، وللسور سبعة أبواب للدخول لمدينة القدس هي باب الخليل، الجديد، الساهرة، المغاربة، الاسباط، النبي داود ثم أشهرها وهو باب العمود أو بوابة دمشق.
وخلال الحكم العثماني الذي استمر زهاء أربعة قرون، خضعت القدس لحكم محمد علي باشا في مصر عندما دخلها ابنه إبراهيم باشا عام 1831 واستمر ذلك حتى عام 1840. وقد لاقت القدس الاهمال وعانت من التدهور شأنها شأن البلاد العربية تحت الحكم العثماني.
الاستعمار البريطاني
إثر الحرب العالمية الأولى وانكسار الجيوش العثمانية أمام القوات البريطانية، فقد تمكن الجنرال اللنبي من دخول القدس والاستيلاء عليها عام 1917. واستمر الاستعمار البريطاني حتى عام ،1948 وقد سعت بريطانيا خلال هذه الاعوام الى تمكين اليهود من فلسطين، والسماح لهم باقامة المستعمرات حول القدس. بينما عاملت السكان العرب بكل قسوة واضطهاد، مما مكن اليهود من الانتصار على العرب عام ،1948 واقامة دولتهم على معظم أرض فلسطين، بما في ذلك الجزء الغربي للقدس، بينما ضمت الأردن الضفة الغربية ومدينة القدس إليها بعد حرب 1948 وحتى العام 1967.
الاحتلال »الإسرائيلي«
عام 1948 توقفت القوات اليهودية على بعد امتار قليلة من أسوار القدس القديمة، وبعد قيام الدولة العبرية اتخذت من القدس الغربية مقراً للعديد من مؤسساتها السياسية والمدنية وأهمها »الكنيست«، واستمر هذا الوضع حتى حرب عام 1967 عندما وقعت القدس بأكملها تحت القبضة اليهودية، والتي بادرت باجراءاتها نحو الضم والتهويد، حيث تم هدم حي المغاربة بالكامل وانشاء حي يهودي مكانه.
وفي 27/6/1967 أضاف الكنيست بنداً إلى قانون يقضي بضم القدس، كما حلت المؤسسات العربية الموجودة فيها وطردت محافظها، وانشأت بلدية القدس، وبدأت في حملة استيطانية واسعة لتطويق المدينة وخلق واقع ديموغرافي مختل لصالحها، والتضييق على السكان العرب ورفض منحهم رخص البناء وفرض الضرائب الباهظة عليهم لدفعهم نحو مغادرة المدينة.
ثم وصل الامر في 30/7/1980 إلى اقرار الكنيست »الإسرائيلي« للقانون الأساسي للقدس الموحدة، واعتبارها عاصمة موحدة لـ »إسرائيل« ومقراً للحكومة والكنيست. ولم تسلم المقدسات الاسلامية في القدس من تدنيس اليهود ومحاولاتهم المستمرة لتدميرها، إذ اقدم يهودي استرالي عام 1969 على حرق المسجد الاقصى، كما تعرض مسجد قبة الصخرة لاعتداء مسلح عام ،1982 وأحداث اخرى كثيرة كان اخطرها عام ،1996 عندما أقدمت حكومة نتنياهو على حفر نفق تحت الاقصى يهدد بقاءه، فاندلعت الانتفاضة التي عرفت بانتفاضة نفق الاقصى مما أرغم »إسرائيل« على وقف الحفريات تحت الاقصى.
القدس الحزينة
هذه هي القدس التي من يزورها يحس بعبق التاريخ، ويكاد يسمع تحت اسواقها المسقوفة وعبر شوارعها المرصوفة صليل السيوف الاسلامية وهي تدافع عن عروبتها عبر تاريخها ضد الغزاة، لكن القدس اليوم مدينة كئيبة يخيم الحزن على أرجائها، وتنام قبل مغيب الشمس، وكأنها مدينة مهجورة، بينما تبقى الاجزاء الغربية منها ساهرة حتى الفجر، وتمنع قوات الاحتلال »الإسرائيلي« الفلسطينيين من زيارتها إلا بتصاريح خاصة، والاستثناء الوحيد لهذه الحالة يكون في شهر رمضان حيث يقصد ساحاتها المقدسة مئات الآلاف من المصلين، فتدب الحياة فيها.
من الملاحظ عبر مسيرة القدس الطويلة ان استعادة المسلمين لها جاءت في المرتين السابقتين صلحاً وسلماً، ولكن بعد معركتين فاصلتين شهيرتين على أطراف فلسطين هما معركتا »اليرموك« و»حطين« فهل تتم استعادتها حالياً سلماً وصلحاً أم ان الامر بحاجة إلى معركة فاصلة مع اليهود حتى تتم استعادتها ويفك أسرها ويزول حزنها؟؟!